إسراء النمر.. الجسد السوريالي/ تحطيم سلطة التناظر

بقلم: عبد الغفار العوضي

هيرمنيوطيقا الجسد/ الجسد يؤول العالم

يلعب “الجسد” بمفهومه الهيرمنيوطيقي الواسع “تأويلية الجسد” في مساحة مركزية في الأدب الحداثي وما بعد الحداثي،ففي الأدبيات النقدية تشكل بنية الجسد منطلقًا لتفكيك وهدم “بمفهوم دريدا للتفكيك” أبنية السلطة الرمزية بكل موروثاتها التي تعتمد عليها من أجل ترسيخ هيمنتها الثقافية والسياسية والاقتصادية، وفي متن التحليل البنيوي الذي أقامه “ميشيل فوكو” في البحث عن جذور السلطة وأبنيتها، والربط بين مفردة “الجسد” باعتبارها أهم أدوات السيميولوجيا في تعرية العلاقة بين الفرد “هوية ذاتية يقوم النسق بتعريفها” والأنساق الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تقوم السلطة من خلالها باستخدام الجسد وتوظيفه داخل آلة النظام، فالجسد هو العمال الذين يقومون بعملية الإنتاج داخل النظام الرأسمالي، والجسد هو المستهلك الذي نشأ النظام من أجل تلبية احتياجاته وتنمية رغباته لإعادة تشغيل دورة الإنتاج، الجسد هو مركز الخطيئة حيث نزل الإنسان من السماء إلى الأرض في علاقة تبدو شديدة التناقض بين الحرية المطلقة للجسد ومحيطها الخارجي الذي يكبلها، الجسد هو مركز اللذة والألم والشعور بالندم لأنه ارتكب أخطاء في حق النظام والعالم، الجسد هو المساحة الصغيرة جدًّا والبالغة الهشاشة التي تتحمل كل مفردات العقوبات القانونية والجسدية حين تخالف ما فرضه المجتمع من آليات للكبت الاجتماعي والثقافي.

في كتابه المهم “عن التفسير: مقال عن فرويد” يقوم بول ريكور بالتفريق بين “هيرمنيوطيقا الارتياب” وهو المذهب التأويلي الذي يشك في وجود معان باطنة وراء النص الظاهر، وهو المنطلق البحثي الذي استخدمه أتباع ماركس وفرويد ونيتشه، في الكشف عن الأسس والجذور والأنساق الاجتماعية والتاريخية التي تشكل مرجعية لإنتاج النص، وبين هرمنيوطيقا الوصول إلى المعنى الحقيقي، وهو الأسلوب المستخدم في التفسيرات اللاهوتية الدينية والمرتكزة على محورية فقه اللغة من أجل ترسيم الحدود الظاهرة للنصوص الدينية ومفاهيمها الرئيسية.

ومن هنا يبدأ ريكور في تضفير العلاقة المعقدة بين النص”الجسد” وبين الهيرمنيوطيقا والفلسفة التحليلية من جهة، وبين التحليل النفسي واللاهوت من جهة أخرى، وهي العلاقة التي أتاحت لنا فهم الجسد عبر مفاهيمه الشاملة ووقوعه كمركز داخل دائرة متسعة من التشكلات الاجتماعية والثقافية والنفسية.

تفكيك الجسد/ اللعب الحر بالمعنى

تبدأ “إسراء النمر” في اللعب الحر بالجسد الذي تفكك إلى قطع بازل، كل قطعة هي مساحة تأويلية لتعريف هوية كل عضو، وأيضًا لمحو تعريفه السابق، وإعطائه اسمًا جديدًا، ووظيفة مختلفة، إنها تلك التشكلات التي لا تخترع من خلالها فقط عالمها الذاتي، مكونة أنساقًا مجتمعية أخرى لا تلعب فيها سلطة الخارج أي تأثير، ولكنها أيضًا تطل برأسها المتلصص لترى كيف يستخدم اللاوعي خياله الثوري لهدم تصورات السلطة عن نفسها، إنها علاقة تبادلية مستمرة بين الاعتراف بسلطة الجسد وخروج عليه في آن واحد، بين تفكيك العالم الخارجي والوقوع تحت هيمنة ظله المتواري، لنكتشف ذلك:

أنت لا تعرف فداحة ما حصل

يوم استيقظت

ووجدت ملامحي

على الوسادة:

رموشي وشعري

وحاجبي

أما عيناي وأذناي

وأنفي وفمي

فكانت قد تدحرجت

وسقطت على الأرض

بكيت جدًّا

تسألني كيف بكيت

وعيناي على الأرض

بكيت هكذا

من قلبي

ومن عينيّ أيضًا

وكانت دموعي تتلمس الطريق

إلى فمي

فمي الذي ظل يقول كلامًا غير مفهوم

فمي الذي تقلب على ظهره

حتى وصل إلى عتبة

البيت

كأنه يريد

أن يسب الحياة

في وجهها.

الآن

لم أعد قادرة على التقاط”سيلفي”

لنفسي

لم أعد قادرة على غسل وجهي

لأنني كلما مررت بأصابعي عليه

أرتعش

وأتذكر ناس هذا الوجه

الذين غادروه

متابعة قراءة إسراء النمر.. الجسد السوريالي/ تحطيم سلطة التناظر

شعرية الغياب والفقد: لا انتظام النص في ديوان “العيون التي غادرت سريعًا”


بقلم: د.محمد صلاح زيد

بالنظر إلى الشعر الحداثي، فإننا نجد أنفسنا أمام محكيات شعرية، قد تكون قائمة في ذاتها على الإفادة فنيًّا وبنائيًّا من معطيات الفنون النثرية الأخرى، مثل: المقامات، والقصة القصيرة، والمسرحية، وغيرها من فنون النثر الأخرى. لكن القصيدة الحداثية في النهاية هي أحد أشكال الشعر برؤية قائليها، فالشاعر الحداثي، ينقل مفردات أفكاره والحياة من حوله إلى قصائده الشعرية، والتي يتضح فيها كثيرًا الإفادة من معطيات الفنون النثرية سالفة الذكر. وهنا يجدر بنا الوقوف شيئًا ما أمام إفادة الشعر عامة من فنون النثر المختلفة، وما قد يحيلنا الحديث إليه من الوقوف أمام نظرية تداخل الأنواع/ الأجناس الأدبية.

إن ثمة مسارات علاقة عقدت بين هذين الفنين (الشعر والنثر)، لعل أبرزها ما يرصده د.عثمان موافي في كتابه الشهير “في نظرية الأدب: من قضايا الشعر والنثر في النقد العربي القديم”، إذ يقولفي مقدمة كتابه إنه جاء لـ”يكشف عن تصور نقادنا العرب القدماء لطبيعة العلاقة بين هذين الفنين، وذلك من حيث المفهوم، والشكل الفني، والموضوع، والوزن، واللغة، والخيال. كما يكشف عن مظهر من المظاهر التي تدل على هذا التداخل الفني بين هذين الفنين، الذي يتمثل بشكل واضح في شعر الكُتَّاب، وما يتسم به من خصائص الفن النثري. وقد كان الهدف من الأساس من تأليف هذا الكتاب: الرد على القول بإلغاء الفوارق الفنية بين الشعر والنثر، الذي ردده بعض رواد النقد العربي الحديث”.(1)

إن تلك الثنائية نجد تحقيقها فاعلًا وحقيقيًّا في الشعر الذي يعتمد تقنيات النثر في التشكيل والبناء، كتقنيات بناء الرواية والقصة القصيرة، حيث الاعتماد على عناصر القص والحكاية وحضور الذات التي تروي الأحداث داخل النص، وهو ما يسمى بالشعر المنثور، والشعر المنثور هنا ليس بالضرورة أن يكون قصيدة النثر الخالصة في مفهومها الحديث، بل قد ينسحب التعريف إلى تلك القصيدة الحداثية ذات التحولات الفنية والبنائية، التي تفيد كثيرًا من فنون النثر الأخرى فنيًّا وبنائيًّا وجماليًّا، وأيضًا، قد نقصد بها قصيدة النثر الخالصة، التي قد تشبه القصيدة الحداثية ذات التحولات الفنية والبنائية، فنجد ذلك يتضح جليًّا في (قصيدة النثر)، وقصيدة النثر “لا تعني السهولة ولا الاستسهال، ولا تعني الضعف وغياب الثقافة أو عدم المقدرة على كتابة قصيدة تقليدية، إن كتابة قصيدة النثر حالة شعرية ذات خصوصية، وليست سهلة على الإطلاق، ولابدَّ لكاتبها من أن يبتكر لغته وصوره وأن يتجنب كل ما هو مألوف، وأن يودع في قصيدة النثر مبررات كتابتها، لتكون قصيدة نثر”.(2)

وفي ديوان “العيون التي غادرت سريعًا” للشاعرة “إسراء النمر”، نجد حضورًا فاعلًا للقصيدة الحداثية، تلك القصيدة المتمردة فنيًّا وبنائيًّا، التي تنشد عالمًا فوضويًّا يعزز من معاني الغياب والفقد ويؤكد على حضور حقيقي لأثر الغياب وعدم الاكتمال، ويأتي ذلك في الديوان عبر مستويين، يمكننا حصرهما كالآتي:

1- فوضى الذات/ فوضى النص.

2- تساؤلات مقلقة.

فلقد لامسا -وبسخرية لاذعة وألم كبير- توتر الذات الشاعرة، وعبرا عبر إمكانات التخييل الشعري للصورة لديها عن عبثية ذلك الواقع المؤسي، المتمثل في فوضى الذات وفوضى النص، وتلك الحقيقة الفاجعة عبر تساؤلات مقلقة لا نهائية.

فوضى الذات/ فوضى النص

ينتمي شعر “إسراء النمر” إلى هذا النحو من القصيدة الحداثية، التي تُماهي بين التخييل وحالة المروق الوجداني، في سعي واضح إلى تخطِّي الشكل التقليدي للقصيدة الشعرية التقليدية، فشعرها يعقد مواجهة مع تساؤلات مقلقة لا نهائية يحفل بها الوجدان. من هنا يتجلى التخييل الشعري لديها؛ ليستمد جماليته من مسارات التأمل والمراجعة لمفردات الحياة في اقترانها بالمطلق، دونما الخضوع لاشتراطات النسق التقليدي لها.

فقصائد ديوانها “العيون التي غادرت سريعًا” يتصل فيما بينها التخييل الشعري عبر صورٍ مفارقةٍ أكثر انشدادًا لصنعة الخيال والتخييل، لتلك الكيانات الذاتية الغائبة والمحجوبة، ما يجعل كل شيء يتشظَّى ويتقطع داخل الصور الشعرية لديها، تتحدث الشاعرة في قصيدتها”يد تجوب البيت” عن حالة التشظي والسديم الناتج عن انعدام الاكتمال، فقدان الحياة، وداع وارتباك، فوضى الذات/ فوضى النص، فتقول:

“البارحة

نسيت يدي

على الطاولة

وذهبت إلى العمل

لم أستطع أن أسلم

على أحد

أو أكتب أي شيء

وحين عدت

وجدت يدي تجوب البيت

بحثًا عني

يدي التي

يئست

وعادت ثانية

إلى الطاولة

ممسكة

بفنجان القهوة

والسيجارة معًا” (ص14،15).

متابعة قراءة شعرية الغياب والفقد: لا انتظام النص في ديوان “العيون التي غادرت سريعًا”