علي منصور: كتبت قصائد إيروتيكية ولن أنشرها لأنها إثم

BeautyPlus_20190613172858857_save

لا أعتقد أن على منصور كان يسأل كثيراً -وهو طفل- عن الله. لا أعتقد أنه مر بالحيرة التي مررنا بها. فهو محظوظ -أقول محظوظ وأعرف كم سيؤلمه هذا- لأن والده مات قبل أن يبلغ الرابعة، إذ صوّر له خياله البريء، أن جبريل سينزل عليه، ويراضيه بالنبوة. لا أعتقد أن على منصور كان سيتحمل ما تحمله النبي، إنه هش جداً، هش مثل قشة التبن التي كان ينزعها من حائط الطوب اللبن. لقد ألمح لي بذلك، إذ قال بخجلٍ وحزنٍ شديدين: “أنا ضعيف وجبان، كلما تحدثتُ في أمرٍ يخص الدين، وينتقدني أصحابي المثقفون، أنكمش على ذاتي، وأبتعد”.

أحبُ أن أذكر أن على منصور ولد في الأول من شهر جمادي الأولى عام1376 ه، وأنه يحب سورتي الأنعام والنحل، وأنه مفتون بمفردة (أفمن) التي ترددت في القرآن خمسة عشر مرة، مثلما في سورة الزمر، أية 22، (أفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). أحبُ أن أذكر حكايات كثيرة عنه، خصوصاً حكايته مع زوجة أستاذه المسيحي، التي عرفت أنه -وهو الذي بالكاد أتم عامه العاشر- يتخلف عن موعد الدرس، لحرصه على أداء الصلاة في موعدها، والتي أحبته، وعطفت عليه، لأنه يتيم، وفقير، والتي نادته في يوم، وأخذته إلى غرفتها.

يقول: “كنتُ مأخوذا بالطبع، لكنها طمأنتني، وأمسكت بيدي ووضعتها على رأس رضيعها المحموم، متوسلة أن أقرأ شيئاً من القرآن، فرحتُ أقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين”.

يتعجب الكثيرون منه لأنه يتحدث دائماً عن الدين، ويظنون أنه أتى خطأً إلى الشعر. إنه توليفة مختلفة. يؤمن بالله والطبيعة والبشر. ويؤمن في آن بالفن والصيدلة والماركسية. وفي المرات التي رأيته فيها، لاحظتُ أن وجهه يحمل يقيناً غريباً، تقريباً لم ألتق بأحدٍ لديه هذا اليقين، وكان يذكرني هذا بمقولة نيتشه “لا الشك، إنما اليقين هو الذي يؤدي إلى الجنون”.

استجمعتُ شجاعتي في أحد اللقاءات، وسألتهُ: ألم تشك يوماً في وجود الله؟، ورغم أنني توقعتُ أن إجابته ستكون بالنفي، إلا أنه فاجئني بأنه ألحد لنصف يوم فقط.

كان ذلك في شهر رمضان سنة 1977، إذ كان حينها منخرطاً في العمل السري، ويحتك بالماركسيين دون غيرهم. وفي يوم كان يجلس مع مجموعة منهم في مقهى زهرة البستان، وحين عرفوا أنه صائم، استهزأوا به، وأزعجه هذا جداً، لأنه كان يشعر في هذه الفترة بأن الدين يقيده، وحتى يثبت لهم أنه مثلهم، ماركسي بحق، فطر على كوب من الشاي، فهللوا، وباركوا له، لكن بمجرد أن عاد للبيت، وعلى مائدة الفطور، شعر باحتقار شديد لنفسه، وظل داخله يصرخ “إزاي يا علي عملت كدا”، ولم ينته اليوم إلا وكان عائداً إلى يقينه.

شغلني أيضاً هل كتب قصائد إيروتيكية؟ شيء ما بداخلي كان يقول نعم، لكنني لم أكن شجاعة بما يكفي لأسأله، وطلبتُ منه أن نجري حواراً في أقرب وقت. لم يتحمس، وحاول أن يقنعني بأن ليس لديه شيء جديد ليقوله، حتى إنه أرسل لي عشرين حواراً أجراها معه زملاء أعزاء، كما أرسل شهاداته عن الشعر، وبالفعل ظللتُ أسبوعاً كاملاً لا أفعل شيئاً سوى أنني أقرأ لعلي منصور، وفي ساعة متأخرة من أحد الأيام هاتفتهُ قائلة: غداً نجري الحوار.

بدون مبالغة جلسنا نتحدث من الثانية ظهراً حتى الثامنة مساءً. لم أشعر بالملل. هو كذلك. لكنهُ بدا خائفاً، ومرتبكاً، وبحاجة شديدة للبكاء، حتى أنه كان يقول لي كلما انتبه إلى أنه أخذ راحته في الكلام: طبعاً مش كل الكلام دا هيتنشر!

BeautyPlus_20190613123058185_save

-من أي شيء تخاف؟

من كل شيء. الآن مثلاً أنا خائف منكِ. خائف من الكلام الذي سأبوح به لكِ. خائف مما سوف تكتبينه. خائف ربما من السخرية، أو السباب. خائف جداً. وهذه طبيعتي. لقد عشت حياتي كلها في خوف. في خوف من الله. ومن الناس، والسلطة. ولا أعرف كيف استطعتُ أن أتحمل ذلك. لكنني أهون على نفسي وأقول أنني ليس لي في ذلك حيلة. أبي مات مبكراً جداً، ولم أر وجه أمي سوى خائف ومهموم. ربما ورثت عنها هذا الوجه. فرغم أن الناس يقولون لي إن وجهي لم يغادر طفولته، إلا أنني أراه حاداً وغليظاً. أنا لم أفعل أشياء كثيرة بسبب الخوف، وللغرابة، فعلتُ أشياء -كان لا يجب أن أفعلها- بسبب الخوف أيضاً. وأعتقد أن انضمامي للعمل السري في بدايات مراهقتي عزز لديّ هذا الشعور. لأنه كان مفروضاً علينا ألا نبوح بما نفعله حتى لو لأمهاتنا، ولشدة إيماني بالماركسية وإخلاصي لها تمنيتُ أن لو كانت أمي هي الأخرى قد ماتت مثل أبي حتى أستطيع أن أتحرك بحرية، وأغيب عن البيت كما أريد.

-كتبت نصاً عن أمك في ديوان (ثمة موسيقى تنزل السلالم) تقول فيه إن ظُفرها بعشر من هؤلاء النسوة في المدينة، وقلت لي إنك تراجعت أن تسمى ديوانك الثاني (وردة الكيمياء الجميلة) بـ (لا تهجري الحزب يا منيرة)، حتى لا يعرف الناس اسمها، أليس هناك تناقض في علاقتك بها حين تقول لي الآن إنك كنت تتمنى موتها؟

لا لا، كنت أتمنى موتها من شدة الخوف عليها مما قد يصيبها من قهر جراء اعتقالي مثلاً أو تعذيبي، قلب الأم لا يحتمل، خاصة أمي، تلك القديسة التي تحملت ما لا تتحمله امرأة. ترملت في الثلاثين. وكان في رقبتها ثلاثة أطفال، وفي رحمها جنين لم يكتمل بعد. لازلتُ أتذكرها وهي تجلس أمام الفرن لساعات تخبز للناس خبزهم لقاء أرغفة معدودات، لازلتُ أتذكرها وهي تجلس في صحن الدار، بكامل أنوثتها، تمشط شعرها فرحانة بعد أن حممتنا جميعاً. لازلتُ أتذكرها حين أتى المخبر ليقبض علينا، لأن جارتنا اشتكتنا بسبب شقاوة أخي الكبير. لازلتُ أتذكر ذعرها من أن يحتجزونا، وصوتها وهي تقول “لا يا سعادة البيه أنا اللي زعلتها مش ابني”. أمي واجهت ظروف الشقاء الصعب، رفضت الزواج، وأصرت على تعليمنا، وحاولت قدر استطاعتها ألا تجعلنا ننام دون عشاء، وألا نرتدي طيلة الوقت ملابس بالية. كما حاولت أن تروضني، فلم يكن سهلاً عليها أن ترى ابنها يفعل أشياء مريبة ويغيب بالساعات، فالعمل السري يحوّلك إلى إنسان غامض، وغريب، ويجعلك تمشي وأنت تلتفت إلى ورائك. العمل السري أبعدني عن أمي وقربني منها في آن، لأنه جعلني أدرك كم أحبها، وكم أكره السلطة.

-إلى متى ظللت في الشيوعية؟

إلى اليوم.

-هذه مفاجأة، ظننتُ أنكَ تركتها بعدما سربت الإلحاد إلى قلبك، الشيوعية لا تناسب رجلاً مثلك!

الفقر والظلم والحياة البائسة التي عشتها هي التي جعلتني أنتمي لليسار. يقول أبو ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه) وتقول الماركسية لكل حسب حاجته ومن كل حسب طاقته. لهذا الماركسية والدين كانوا عندي واحداً. كلاهما منحاز للفقراء والمظلومين. ولما صادفت في الماركسية مقولة (الدين أفيون الشعوب)، واكتشفتُ أنها ضد الدين منهجاً وفلسفة، وأن كل ماركسي مُلحد بالضرورة، لم يجعلني هذا أنشق عنها، إذ قررتُ أن أؤسس نظرية جديدة وأسميها “المنصورية”، وهي ماركسية مسلمة. وبالمناسبة ليست الماركسية التي سربت الإلحاد لقلبي، إنما الماركسيون بشرحهم للمادية الجدلية والصراع ونظرية النشوء والإرتقاء ودارون، ولرسمهم صورة معينة للماركسي، الذي كان من العيب مثلاً أن يكون رومانسياً، وهذا وضعني في ورطة كبيرة، لأنني حين أحببتُ زميلتي في الجامعة، كتبتُ فيها قصيدة، وأردتُ أن أنشرها، فأرسلتها لمجلة صباح الخير باسم علي محمد علي، خوفا من أن يتهمني الرفاق الماركسيين حين يرونها منشورة بأنني ما زلت برجوازياً صغيراً، لكنني حزنت جداً حين نشرت بالفعل ومعها مديح من فؤاد حداد وبدون (علي منصور).

BeautyPlus_20190613172647202_save

-كيف استطعت أن تكون شاعراً وسياسياً وصيدلانياً في نفس الوقت، كيف استطعت أن تخلص للشخصيات الثلاث، الشخصيات اللاتي لا يجتمعن في جلسة واحدة؟

عشتُ ممزقاً بين الشاعر والسياسي والصيدلاني، للحد الذي كدتُ فيه أجن، لسنوات طويلة وحتى اليوم لا أتحدث عن كوني شاعراً أو سياسياً بين الأقارب والجيران وزملاء العمل، إذ حرصتُ على أن أكون أمامهم صيدلي جاد، وحاد، لأنهم إذا عرفوا مثلاً أنني شاعر، ربما يسخرون من الشعر، خصوصاً أن ما أكتبه قصيدة نثر، وأنا لا أحب أن أضع الشعر في هذا الموقف أبداً، ومن كان يكتشف منهم هذا بالصدفة، كان يتعجب مني، ويعتقد أنني شخصيتان، ولا يعرفون أنني ثلاث، وربما أربع، فالشخص المتدين الذي بداخلي ظل في صراع أيضاً معي، إذ يريد أن يكون هو المهيمن، لكنني لم أكن مخلصاً لأي منهم، لا أستطيع مثلاً أن أقول أنني شاعر عظيم، أو سياسي فاعل، أو عالم أكاديمي، أو رجل صالح جليل، أنا فقط على منصور، شخص ظن في يوم، وهو طفل، أنه سيكون نبياً.

-أليس اختيارك لأن تكون شاعراً فيه إصراراً على النبوة؟

ربما ، فقد كنتُ طفلاً بائساً، وغنياً في آن بالخيالات وأحلام اليقظة، وأعتقد أن هذا ما دفعني لكتابة الشعر مبكراً دون أن أعرف البحور والأوزان والقوافي. أذكر أن أول قصيدة كتبتها كانت مدحاً في مجلة الجديد، والتي لحسن حظي نُشرت، وأنا في الصف الثاني الثانوي، الأمر الذي شجعني كثيراً. وأغلب كتاباتي دائماً تأتي خلسة من الوقت في زحمة الانشغال. ما إن تأتيني حمي الكتابة حتى ألتقط أقرب ورقة بيضاء مني لأكتب. كنتُ مثلاً أكتب قصائد في كراسات الدرس والمحاضرات، مثلما كان أمل دنقل يكتب قصائده على تذاكر القطارات وعلب السجائر.

-على سيرة أمل دنقل، انزعج البعض منك لأنكَ انتقدت مطلع قصيدة كلمات سبارتكوس الأخيرة (المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال لا في وجه من قالوا نعم)، إذ قلت إن أمل مجد من لا يستحق التمجيد، وحاولت أن تؤكد أنك تقرأ النص بمعزل عن نزعتك الدينية، لكنني أرى أن هذه النزعة تتحكم فيكَ.

حاولت مراراً أن أتقبل نص أمل ولم أستطع، ربما فعلاً لعاطفة دينية، وربما لأن الفطرة لا تقبل ذلك، فتمجيد الشر ضد الفطرة. لكن إمعان النظر دلني على السبب الحقيقي. أعرف أن أمل لا يقصد أن يمجد الشر وإنما يمجد بطولة المعارضة، لكن التوفيق خانه في ضرب المثل، لأنه في تمجيده لذلك بشكل مطلق دون الأخذ في الاعتبار سياق الحدث، يكون أشبه بالشاعر الجاهلي القطامي التغلبي الذي راح يمجد الإغارة على القبائل بشكل مطلق فقال :”وأحيانا على بكر أخينا/ إذا ما لم نجد إلا أخانا”. أمل من دون اللاءات التي قيلت على مر العصور والتاريخ، اختار لا التي قيلت في وجه الحق، والتي بسببها طُرد الشيطان من الجنة، وصار عدواً للإنسان. أي “لا” تستحق التمجيد؟ التي قالها الشيطان لله، أم التي قالها مثلاً سيدنا إبراهيم لقومه فألقى في النار؟ طيب، ماذا عن الـ “لا” التي قالها الضعفاء والمظلومون في وجه الطغاة؟ ماذا عن الذين صلبوا وسجنوا واعتقلوا وقطعت أياديهم من خلاف؟ ماذا عن المؤمنين المسيحيين الذين ألقوا للأسود الجائعة؟ أليس هؤلاء من يستحقون التمجيد؟ مشكلتي مع أمل أنه جعل من “لا” مجانية وجبانة “بطلة”، ولا أعرف كيف يمكن أن يتقبلها أي شخص عادي؟

-أنت قلت “شخص عادي” وليس مبدعاً مثلك. الفن في أوقات كثيرة يكون صادماً، ومحطماً لتصوراتنا الدينية، والأخلاقية.

صادما ومحطما لتصوراتنا الدينية والأخلاقية! هل أمدح الزنا مثلاً؟ هل أمجد الاغتصاب؟ هل أرغّبُ في الكذب والخديعة؟ هل أضفي على السرقة والخيانة بطولة وهالات فخر؟ ولماذا يتقاعس الفن عن تحطيم تصوراتنا السياسية؟ الفن والدين يلعبان في أرض واحدة، اسمها النفس البشرية. فهل الفن لا يكون فناً إلا إذا جاء هادماً ومحطماً لما هو فطري وسوي؟ هل تمجيد الباطل فن؟ هل القصيدة التي تدعو للفجور فن؟ وهل شرط أن أكون بوهيمياً حتى أصير مبدعاً؟ ثمة مسلمات لدى البشر، أو دعينا نقول فطرة، هل ننكر أن الإنسان بفطرته يحب الخير ويكره الشر، وأنه بفطرته يحب الجمال ويكره القبح؟ الفن في رأيي يرتقي مع الدين في نفس الهدف، وهو السمو بالروح، والأخلاق.

BeautyPlus_20190613173721163_save

-ماذا لو كانت أخلاقي غير أخلاقك، ماذا لو كنتُ بلا دين أصلاً؟ الأمر نسبي جداً.

لم أسع يوماً لأن أفرض أفكاري ومعتقداتي على أحدٍ. لا أعرف كيف تريني الآن. كل ما أعرفه أنني صادق معكِ. وأنني أحاول أن ألقي أمامك كل قناعاتي كمتدين قبل أن أكون مبدع. نزعتي الدينية تتحكم فيّ كما قلتِ، لكنني أيضاً أفهم في الفن، وأعرف أن تلقيه يستلزم من الواحد أن يكون محايداً. وأحاول أن أفعل ذلك قدر الإمكان. قد أنجح، وقد أخفق. لكن من المستحيل أن أقرأ نصاً جميلاً وأنكر إعجابي به لمجرد أنه يخالف قيمي. أنا أحب كفافيس مثلاً وأحب نصوصه التي تتحدث عن المشاعر الشبقية بحسرة فاتنة. اقتناص لحظات المتعة الضائعة من النسيان كانت عبقرية منه. نجح كما لم ينجح أحد في تصوير لوعات النفس البشرية. هذه البراعة في الكتابة واستدعاء الماضي تستحق الإشادة، لا الفعل ذاته الذي هو ضد الفطرة، أو على الأقل الذي لا نتفق بشأنه.

-هم يرون صراحة أنك محافظ!

ت . س. إليوت كان محافظاً، ولم يحل ذلك من أن يكون شاعراً كبيراً، جوته أيضاً كان كذلك. أن تكون محافظاً لا يعني أنك لست مؤهلاً لأن تكون مبدعاً. لا أعرف لماذا التحلي بالأخلاق -في نظر البعض- تهمة، أو شيء يقلل من قيمة المرء الإبداعية؟ منذ أن أصدرتُ ديواني (عشر نجمات لمساء وحيد) وأشاعوا أنني شاعر قصيدة النثر الإسلامية، وحينها قلتُ في حوار مع الأهرام العربي إن هذا شرف لا أدعيه وتهمة لا أتبرأ منها. الإبداع لا علاقة له بانحلال المرء أو تدينه. أبو النواس شاعر الخمر والمجون والعربدة، كتب أجمل النصوص الدينية التي يترنم بها الحجيج حتى يومنا هذا، وهى “لبيك اللهم لبيك… لبيك لا شريك لك”. من حق أي أحد أن يكتب من النزعة التي يريد، ومن حق الناس أن يتقبلوا النص أو يرفضوه. النص هو الذي يجب أن يحاكم، وليس المبدع. الدين أصلاً هو الذي منح الحرية للإنسان في العقيدة، فكيف لإنسان أن ينزعها من أخيه في أمر إبداعي أو مذهب فني عابر!

-توقفتُ كثيراً عند نصوصك المبنية على حكايات دينية، مثل نص (أحدٌ أحدْ) المنشور في ديوان (عصافير خضراء قرب بحيرة صافية)، والذي تتحدث فيه عن حمامة ابنة أخت أبرهة، التي أُسرت في معركة هدم الكعبة، والتي أحبها العبد رباح وتزوجها فأنجبت بلال، كما توقفتُ أيضاً عند النصوص التي بها أدعية.. ما هدفك من هذه النصوص، خصوصاً أن بإمكانك أن تكتب مقالاً عن أي حكاية دينية؟

­­سأقول لكِ سراً. أحياناً أكتبُ هذه النصوص لأواجه بها النصوص الإيروتيكية التي لا أذكر أنني فرحتُ بأي منها فور الانتهاء من قراءتها، ربما لأنني خجول بطبعي، لأن النصوص الإيروتيكية تندرج تحت القول الفاحش الذي يحض على الرذيلة. ونيكولا بوالو قال إن الشعر الذي يحرض على الإباحية والفجور ليس من الشعر في شيء. وهذا لا يعني أبداً أنني ليس لديّ شهوات، بالعكس، قد أكون أكثر شهوانية من الرجل الذي يعبر عن غرائزه بأي طريقة. طيب، سأقول لكِ سراً آخر. أنا كتبتُ الكثير من النصوص الإيروتيكية لكنني لم ولن أنشرها. لأنني أخجل أن تقرأها ابنتي أو زوجتي، أو يقرأها أحدٌ من جيراني، أو الذين يعرفونني، فتنهار صورتي في أذهانهم. وقبل هذا كله أخاف أن أقع في الحرام، فهي إثم طبقا ليقيني الديني.

BeautyPlus_20190613173525521_save

-لكن الأدب لا يخلو من الإباحية، الحياة كذلك، يا أخي توفيق الحكيم يقول: (لا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة)..

ليس غائباً عني (ألف ليلة وليلة)، الذي لا يذكر أحدٌ مقدمته. إنه كتاب في العظة، وكله حكم وعبر، ويكاد يكون كتاباً سماوياً لو قرأناه في ضوء الهدف الذي كُتب من أجله. إنهم يجتزئون منه كل ما هو إيروتيكي، حتى يبررون الإيروتيكية في المطلق. لكن الإيروتيكية يجب أن تأتي محملة بالدلالات الإنسانية حتى يكون لها قيمة ومعنى. الإيروتيكية السائدة الآن في الشعر والرواية هي إيروتيكية الغرب، إيروتيكا محضة لذاتها. أما إيروتيكا ألف ليلة وليلة فهى موظفة لأجل أن يتعظ الأحياء مما لحق بالأمم السابقة جراء العدوان على الفطرة. الفكرة أن هناك قوة عظمى بينت لنا الحلال والحرام. القتل حرام. السرقة حرام. الزنا حرام. أن يأتي أحدٌ ويبيح الزنا باسم الحرية والإبداع هذا ما لا أفهمه أبداً. صحيح أن لا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة، كما أن لا معنى للخير بغير وجود الشر، ولذلك خلق الله الكراهية لنكره القبيح ونكره الرذيلة ونكره الشر. ومع أن القتل حرام، لكنه حينما يكون قصاصا فهو الجمال الحق.

-هل تُقيدك هذه الأفكار في الكتابة؟

جداً. فكما قلت لكِ قد أكتب نصوصاً ولا أنشرها، أو قد لا أكتبها من الأساس. أنا لستُ حراً. أنا مقيد، ومضطرب، ومليء بالشهوات.

-كلامك عن الاضطراب والخوف والقيود الكثيرة، يجعلني أسألك عن اليقين، ألم يهيأ لكَ الفخ مرة، كما قلت في قصيدة، ألم يتحوّل إلى هُراء؟

أتذكرين اليوم الذي حكيت لكِ عنه. اليوم الذي كنتُ جالساً فيه مع أصدقائي الماركسيين في رمضان سنة 77، والذي فطرتُ فيه كاعتراف مني بأن الله ليس موجوداً. كان من الممكن أن أنتهي في هذا اليوم لولا أنني تأكدت من أن يقيني بالله واليوم الأخر والقرآن وسيدنا محمد لم يهتز. أنا لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدون هذا اليقين، بالأحرى، بدون الله. بل أنني لا أتخيل الحياة بدون آخرة. لأن الحق ضائع في الدنيا، لذا أرى أن الجحيم أشد حتمية من الجنة. هذا هو اليقين الوحيد الذي لم يتحوّل إلى هُراء. أما يقيني الذي تحول إلى هراء في هذه القصيدة تحديداً فكان يقيني بحتمية الإشتراكية. وربما هذا ما يقصده نيتشه. أننا حين نكتشف أن يقيننا محض وهم نُجن، أما الشك فيجعلنا في منطقة آمنة، لأنه، الشك، ما إلا ترانزيت. أنا حين رأيتُ مثلاً شعراء المربد أيام صدام حسين وهم يتحصنون بالبلاغة، ليدشنون الكذب،  مثل الساسة، والخطباء، فقدتُ يقيني بهم وبما يكتبونه، وكنتُ بحاجة إلى يقين جديد يُعيد إليّ رغبتي في الشعر، فكانت قصيدة النثر، التي جعلتني أتخلى عن قناعاتي القديمة.

– (بعشر قبلات في الهواء، يقول وداعاً).. إنه النص الذي كتبته في سبتمبر 2007 والذي أعلنت فيه عن اعتزالك للشعر. كيف عدت؟ وهل التوقف عن كتابة الشعر أمر بيد الشاعر؟

­لم تكن هذه هي المرة الأولى التي توقفت فيها عن كتابة الشعر. أقدمتُ على نشر مجموعة (عصافير خضراء قرب بحيرة صافية) في دار شرقيات عام 1998 للتخلص مما كتبتُ من قصائد، وأقطع علاقتي تماماً بالشعر. لكنني عدتُ، لا أعرف كيف. وبعدما كتبتُ نص (بعشر قبلات في الهواء يقول وداعاً) الذي نشر في ديوان (في مديح شجرة الصبار)، وجدتني أعود أيضاً. يبدو أنني في اللحظة التي أقرر فيها أن أتخلى عن الشعر، لا أجد سواه، الشعر، لأتكئ عليه وأتماسك. الشعر حيوان أليف يربيه الشعراء في خلواتهم، ومن يرب حيوانا أليفا لن يتخلى عنه أبدا حتى يموت. الشعر يهلك صاحبه ويظل هو يغنى، كداء سرطان أبدي ينهك الأجساد حتى لا يبقى منها سوى القصائد. الشعر قد يكون لك كالخضر إن كنت كموسى، وقد يكون لك كهامان إن كنت كفرعون. والشعر يرقص أيضاً، بل ويحلم أحلام يقظة، حسبما تقص عليه من الحكايات، وما تلعب معه من ألعاب.

BeautyPlus_20190613173300759_save

 

 

 

نُشرت بواسطة

إسراء النمر

صحفية مصرية من مواليد القاهرة (٢٧ يوليو 1991). درست الصحافة في كلية الإعلام جامعة القاهرة (2008 - 2012). التحقت بمؤسسة أخبار اليوم في أكتوبر 2010، والآن أعمل لدى جريدة أخبار الأدب.

فكرة واحدة بشأن "علي منصور: كتبت قصائد إيروتيكية ولن أنشرها لأنها إثم"

  1. حوار بديع شأن حوارتك التي تعنى بما هو إنساني وتبتغيه في وجدان كل مبدع وفي كل طرح ثقافي

    إعجاب

أضف تعليق